معلم بالفطرة، ام باسقاط الواجب

يوم vendredi 28 décembre 2007 القسم : 0 التعليقات


طالما يراودني تفكير ما يدور في رأسي دور الرحى.. يحرك اوتار ذاتي.. يكاد يلمس نبض قلبي.. اعتقد انه نابع من صفحة الضمير وصفاء الروح والصدق مع النفس.. الصدق معك ايها المطلع على اسراري.. يامن تقرأ في صفحات مذكراتي التي لم اسمح بنشرها، ولكنها قد تنشر في يوم من الايام دون علمي او بعد ان اودع الصفحة الاخيرة منها الى الابد. واعتقد انها لن تنشر فلعل مقص الرقيب او فرامته الكهربائية تقطعها اوصالا صغيرة لتذروها رياح الزمن في مزابله الكثيرة الواقعة بأطراف مدينتنا العامرة، واذا تم نشرها رغما عن انفي ارجو منكم ايها القراء ان تغضوا الطرف فلست الا ضحية من ضحايا ذلك الواقع، الواقع الذي وجهني او بالاحرى اجبرني على ان اسير مع التيار، وان اطبل مع القوم، وان اكون كما ارادوا هم ولم التفت الى ما اريده انا.
لقد انتابني شعور ما ذات صباح وانا امارس عملي كمعلم فلست ادري اكنت معلما بالفطرة، ام باسقاط الواجب، ام بطريقة شغل اي وظيفة والسلام كما يقال، ولا ادري هل انا الوحيد الذي اشعر بذلك؟ ام ان هناك من المعلمين من حصلوا على شهاداتهم الجامعية عن رغبة ذاتية.. ام انهم وصلوا الى ما وصلوا اليه من اجل الوظيفة فقط.
هذا ما شعرت به وانا ادخل على الطلاب عند ابتداء الحصة الاولى، اذ كيف يمكنني ان اصل بادائي التعليمي الى المستوى المطلوب وانا لما اصل بعد بقناعتي الذاتية الى كوني من المعلمين الاكفاء الذين يمكن الاعتماد عليهم، لقد قارنت بين قدراتي الذاتية وقدرات بعض المعلمين المتوثبين بعزائمهم القوية وهممهم العالية ليصبحوا من الاكفاء بكل ما لهذه الكلمة من معنى ولكنني وجدت بونا شاسعا بيني وبينهم اذ لم اصل الى المستوى الذي يمكنني من تحقيق معادلة بناء جيل اليوم لاستلام زمام المرحلة القادمة والتطلع للمستقبل، نعم يمكنني ان احضر الدروس والقيها على الطلاب وان اسـألهم واقومهم واقيمهم الى اخر هذه القائمة، ولكن هل يمكنني ان اكون معلما حقيقيا 100 بالمائة اتحلى بشيء او باشياء متعددة من المواكبة للتطور العلمي والمعرفي، معلما مثقفا متواجدا في الساحة يعرف من اين تؤكل الكتف، او «يفهمها وهي طايرة» كما يقولون في المثل الشعبي، معلما يتعامل مع الطلاب معاملة الاب لاولاده، معلما ياخذ بروح العلم ويحببه لقلوب الطلاب فيعشقونه وتتشرب نفوسهم به وتستنير عقولهم بمنافعه اني اشك في ذلك.
لقد اكتشفت في ذلك الصباح انني ـ بكل صراحة ـ لست معلما حقيقيا فما ان بدأت بكتابة خلاصة الدرس الجديد على السبورة الخضراء حتى فاجأني احد الطلاب بقوله: استاذ لو سمحت عندي سؤال، فاشرت اليه ان يسأل فقال: انت تعلمنا مادة القراءة والنصوص الادبية فهل لديك اي ميول للكتابة الادبية؟ هل لديك اي كتابات نشرتها في الصحافة؟ هل لديك اراء حول ما يجري من الاحداث؟ هل ابدعت نصوصا ادبية ترتبط بواقع مجتمعنا وامتنا؟ فكان لهذه الاسئلة وقع كوقع الصاعقة ولم اعرف لاول وهلة ماذا اقول لانني بكل صراحة ليست لدي اي ميول ادبية ولا ثقافية، لم اكتب يوما قصيدة او خاطرة او مقالا ثقافيا او ادبيا، لم اشارك بأي رأي في منتدى للحوار او ندوة ثقافية، وكل الذي كتبته في حياتي هي المواضيع التي كنت انقلها من هنا وهناك لمادة التعبير، حتى ان الابحاث التي كنت اقدمها للجامعة اشتريتها من بعض الاشخاص ممن يقومون بكتابة ابحاث جاهزة معلبة استعدادا لبيعها على المحتاجين امثالي مقابل مبلغ من المال، والاغرب من ذلك انني كنت اشتري بعض الابحاث من بعض محلات خدمات الطلاب والطالبات لاخواني واخواتي، كل ذلك بسبب الركون لحياة الدعة والراحة والتذمر حتى عن محاولة الكتابة والتعبير عن مكنونات انفسنا وما تنطوي عليه سرائرنا من انطباعات ورؤى، وكم كنت اعجب من نفسي لانني امارس الكذب فاكذب، واكذب.. واكذب.. حتى اصدق نفسي.
اجبته بشيء من «دبلوماسية» المعلمين ـ وانا ممتعض بالطبع: لا يشترط في المعلم ان يكون كاتبا او شاعرا او مشاركا في طرح الاراء حول المجتمع والامة، ولكن لابد ان يكون مطلعا على ثقافة عصره.
كان هذا الجواب هو ما اسعفتني به ذاكرتي من الالفاظ والكلمات المحشوة في صندوق ذاكرتي حتى انني توقفت في مساحة تفكيري عند كلمة «ثقافة عصره» لانني بكل صراحة ايضا لا اتابع الا اخبار الرياضة ولم آبه يوما باخبار مجتمعنا من حيث الوحدة والالتحام الوطني واحترام الاخر ولم اكترث باخبار عالمنا الاسلامي ولا اعرف شيئا عن خارطة الطريق او «خربطته» كما يقولون، ولم اتابع اتفاقيات السلام وتداعياتها لاحقا ولم اقرأ عن منظمة التجارة العالمية واثرها الاقتصادي السيئ على الشعوب المستضعفة حيث الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرا او مخططات البيت الابيض لحماية مصالحها في الشرق الاوسط على حساب الشعوب كما لم اهتم بما سموه الشرق الاوسط الكبير، ولم يهمني ابدا ما اطلقوا عليه صناعة الكوارث وانتهاك حقوق الانسان في وضح النهار من قبل قوات الامريكان والحلفاء في العراق وافغانستان، ومحاولاتهم للتدخل الصارخ في السودان بحجة ازمة «دارفور» وكل الذي اعرفه واعطيه اهتماما كبيرا في حياتي هو مايدور على المستطيل الاخضر من الدوري الرياضي ـ مع الاعتذار لكل هواة الرياضة او القائمين عليها لانها تعتبر الهاجس الكبير لغالبية شبابنا في هذه الايام ـ ويا لها من ثقافة قومية تدفع الاجيال الى معرفة واقعها ومعرفة ما يحاك ضدها من المؤامرات خلف كواليس البيت الابيض والكنيست الاسرائيلي وما يفكر فيه رجالات السياسة في اوروبا تجاه عالمنا العربي والاسلامي بشكل عام، لقد مارسوا ضدنا كل وسائل الاستلاب الثقافي حتى نسينا انفسنا وتهنا في في طخية عمياء لا اول لها ولا اخر وقد اكتشفت ذلك مؤخرا بعد ان عقدت العزم على الخروج من شرنقتي التي حبست نفسي فيها سنين طويلة لقد عدت الى فطرتي واكتشفت ذاتي وعرفت اين انا.. عرفت ما يراد مني ومنا جميعا.. عرفت اين موقعي من الاعراب.
عاد الطالب بعد ان سمع جوابي الدبلوماسي وسأل سؤالا اخر: هل كان تخصصك الدراسي عن رغبة ذاتية؟ وبالتالي هل احببت يوما ان تكون معلما؟ هنا شككت في امر ما لان الطالب وضع يده على الوتر الحساس، واعتقد ان هذا الطالب قد قرأ افكاري او ان لديه طريقة ما لقراءتها فطلبت منه بشيء من الغضب: لا تحضر غدا الا مع ولي امرك وسوف ابلغ المرشد الطلابي بذلك.
في اليوم التالي حضر والده فقلت له: ان ابنك يعاني ضعفا في فهم بعض الدروس واعتقد انه بحاجة الى شيء من الاهتمام خصوصا في مواد اللغة العربية. وعدني والده خيرا ثم انصرف، الا انني اكتشفت بعد ايام ان الطالب تم نقله الى مدرسة اخرى بطلب خطي من والده وموافقة من المدرسة الاخرى، فكان ذلك مفاجئا لي الا ان هذا التصرف قد علمني اشياء كثيرة لن انساها ابدا فكم كنت متعاليا ومكابرا في ذاتي رغم يقيني بالخواء الذي كنت اشعر به، وكم كان الطالب عنيدا ابيا واثقا من نفسه.

0 التعليقات :

تصميم وتطوير عالم المهووسين